كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو هريرة: لا تقوم الساعة حتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا. فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى إلى شأنه ذلك حتى يقضى شهوته، وحتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى لشأنه ذلك، حتى يقضى شهوته منه.
وقال عبد الرحمن بن غَنْمٍ: «يُوشِكُ أَنْ يْقعُدَ أُثْنَانِ عَلَى ثِفَالِ رَحىً يَطْحَنَانِ، فَيُمْسَخُ أحَدُهُمَا وَالآخَرُ يَنْظُرُ».
وقال مالك بن دينار: بلغنى أن ريحًا تكون في آخر الزمان، وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا.
وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها ابن أبى الدنيا في كتاب ذم الملاهى.
فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه. فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه. والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم. ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة.
وَقد جاءَ في حديثٍ الله أَعلم بحَالهِ: «يُحشَرُ أكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ في صَوَرِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلابِ مِنْ أَجْلِ حِيَلهِمْ عَلَى الرِّبَا كمَا مُسِخَ أصحاب دَاوُدَ لاحْتِيَالِهمْ عَلَى أخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ».
وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة.
قال شيخنا: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة. فإنهم لو استحلوها مع اعتقد أن الرسول حرمها كانوا كفار ولم يكونوا من أمته. ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصى، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم: يستحلون. فإن المستحل للشئ هو الذي يفعله معتقدًا حله. فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر، يعنى أنهم يسمونها بغير اسمها، كما جاء في الحديث. فيشربون الأنبذة المحرمة، ولا يسمونه خمرًا. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة. وهذا لا يحرم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال في بعض الصور كحال الجرب وحال الحكة. فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون: لا فرق بين حال وحال. وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وَهَلْ أَفسدَ الدِّينَ إِلا الملُو ** كُ وَأحبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا

ومعلوم أنها لا تغنى عن أصحابها من الله شيئًا بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه الأشياء بيانا قاطعًا للعذر مقيما للحجة. والحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبى مالك الأشعرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «ليشربن ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله تعالى بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير».
الوجه الثامن: أن النبي صلى الله تعالى وآله وسلم قال: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» الحديث.
وهو أصل في إبطال الحيل وبه احتج البخارى على ذلك. فإن من أراد أن يعامل رجلًا معاملة يعطيه فيها ألفًا بألف وخمسمائة إلى أجل فأقرضه تسعمائة، وباعه ثوبًا بستمائة يساوى مائة، إنما نوى بإقراض التسعمائة تحصيل الربح الزائد. وإنما نوى بالستمائة التي أظهر أنها ثمن الثوب الربا. والله يعلم ذلك من جذر قلبه وهو يعلمه، ومن عامله يعلمه، ومن أطلع على حقيقة الحال يعلمه، فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة من إعطاء الألف حالة، وأخذ الألف والخمسمائة مؤجلة، وجعل صورة القرض وصورة البيع محللًا لهذا المحرم.
الوجه التاسع: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «البَيِّعَانِ بِالخْيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلا أنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ. وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أنْ يَسْتَقِلهُ». رواه أحمد وأهل السنن، وحسنه الترمذى.
وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل.
ووجه ذلك: أن الشارع أثبت الخيار إلى حين التفرق الذي يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما. فحرم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة وهى طلب الفسخ، سواء كان العقد جائزا أو لازمًا، لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق في العرف له. فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار، ولم يوضع التفرق لذلك. وإنما جعل التفرق لذهاب كل منهما في حاجته ومصلحته.
الوجه العاشر: ما روى محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكبَتِ الْيَهُودُ، وَتَسْتَحِلُّوًا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ».
رواه أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام حدثنا الحسن بن الصباح الزعفرانى حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو، وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذى.
وهو نص في تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل. وإنما ذكر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدنى الحيل تنبيها على أن مثل هذا المحرم العظيم الذي قد توعد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه.
فمن أسهل الحيل على من أراد فعله: أن يعطيه مثلًا ألفًا إلا درهمًا باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوى درهمًا بخمسمائة.
وكذلك المطلق ثلاثًا: من أسهل الأشياء عليه أن يعطى بعض السفهاء عشرة دراهم مثلًا. ويستعيره لينزو على مطلقته فتطيب له، بخلاف الطريق الشرعى. فإنه يصعب معه عودها حلالًا إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم نهانا عن التشبه باليهود، وقد كانوا احتالوًا في الاصطياد يوم السبت، بأن حفروًا خنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز. لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت، وهو عند الفقهاء حرام لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة.
ومن احتيالهم: أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم، تأولوًا أن المراد نفس إدخاله الفم، وأن الشحم هو الجامد دون المذاب، فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، ولم ينظروا في أن الله تعالى إذا حرم الانتفاع بشئ فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله، إذ البدل يسد مسده. فلا فرق بين حال جامده وودكه، فلو كان ثمنه حلالًا لم يكن في تحريمه كثير أمر، وهذا هو:
الوجه الحادى عشر: وهو ما روى ابن عباس قال: بَلَغَ عُمَرَ رضي الله عنه أنّ فُلانًا بَاعَ خَمْرًا. فقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلانًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ تَعالَى عَليْهِ وآله وسّلمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، حُرّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» متفق عليه.
قال الخطابى: «جملوها» معناه: أذابوها حتى تصير ودكا فيزول عنها اسم الشحم يقال: جملت الشحم، وأجملته، واجتملته. والجميل: الشحم المذاب.
وعن جابر بن عبد الله: أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: «إِنّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمرِ وَالمَيْتَةِ، وَالْخَنْزِيرِ، وَالأَصّنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ فإِنّهَا يُطْلَى بهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِح بهَا النّاسُ؟ فَقَالَ: لا، هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم عِنْدَ ذلِكَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثمَنَهُ». رواه البخارى وأصله متفق عليه.
قال الإمام أحمد، في رواية صالح، وأبى الحارث في أصحاب الحيل: عمدوًا إلى السنن، فاحتالوا في نقضها، فالشئ الذي قيل إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه. ثم احتج بهذا الحديث، وحديث: «لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ».
قال الخطابى قد ذكر حديث الشحوم: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئة وتبديل اسمه، وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تقرب مال اليتيم، فباعه وأخذ ثمنه فأكله وقال: لم آكل نفس مال اليتيم. أو اشترى شيئًا في ذمته ونقده وقال: هذا قد ملكته وصار عوضه دينا في ذمتى، فإنما أكلت ما هو ملكى باطنًا وظاهرًا.
ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نبيها نبههم على ما لعنت به اليهود، وكان السابقون منها فقهاء أتقياء، علموا مقصود الشارع، فاستقرت الشريعة بتحريم المحرمات: من الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها وإن تبدلت صورها، وبتحريم أثمانها، لطرَّق الشيطان لأهل الحيل ما طرق لهم في الأثمان ونحوها. إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى.
الوجه الثانى عشر: أن باب الحيل المحرمة مداره على تسمية الشيء بغير اسمه، على تغيير صورته مع بقاء حقيقته، فمداره على تغيير الاسم مع بقاء المسمى، وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة. فإن المحلل مثلا غير اسم التحليل إلى اسم النكاح، واسم المحلل إلى الزوج، وغير مسمى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح، والحقيقة حقيقة التحليل.
ومعلوم قطعًا أن لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم الذي اللعنة من بعض عقوبته، وهذا الفساد لم يزل بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة، ولا بتقديم الشرط من صلب العقد إلى ما قبله. فإن المفسدة تابعة للحقيقة، لا للاسم ولا لمجرد الصورة.
وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد يعلمها من قلوبهما عالم السرائر فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمه إلى المعاملة، وصورته إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه ألبتة وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
وأىّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار ودكا وباعوه وأكلوًا ثمنه وقالوا: إنما أكلنا الثمن، لا المثمن، فلم نأكل شحمًا.
وكذلك من استحل الخمر باسم النبيذ كما في حديث أبى مالك الأشعرى رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: «ليشربنّ ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير».
وإنما أتى هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جمله، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أو أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت، ولا استباحة لنفس الشحم بل الذي يستحل الشراب المسكر، زاعما أنه ليس خمرًا مع علمه أن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصوده وعمله عمله أفسد تأويلا. فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر كما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، وقد جاء هذا الحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من وجوه أخرى.
منها: ما رواه النسائى عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها». وإسناده صحيح.
ومنها: ما رواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت يرفعه: «يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها» ورواه الإمام أحمد، ولفظه: «ليستحلنّ طائفة من أمتى الخمر».
ومنها: ما رواه ابن ماجه أيضًا من حديث أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لا تذهب الليالى والأيام حتى تشرب طائفة من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها».
فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالًا لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه. وكذلك شبهتهم في استحلال الحرير والمعازف، فإن الحرير أبيح للنساء وأبيح للضرورة، وفى الحرب. وقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أخْرَجَ لِعبَادِهِ} [الأعراف: 32].